سورة طه - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}
اعلم أنهما عليهما السلام لما قالا: إنا رسولا ربك قال لهما: فمن ربكما يا موسى، فيه مسائل:
المسألة الأولى: أن فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر ثم إن موسى عليه السلام لما دعاه إلى الله تعالى لم يشتغل معه بالبطش والإيذاء بل خرج معه في المناظرة لما أنه لو شرع أولاً في الإيذاء لنسب إلى الجهل والسفاهة فاستنكف من ذلك وشرع أولاً في المناظرة وذلك يدل على أن السفاهة من غير الحجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم ثم إن فرعون لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع وذلك يدل على فساد التقليد ويدل أيضاً على فساد قول التعليمية الذين يقولون نستفيد معرفة الإله من قول الرسول لأن موسى عليه السلام اعترف هاهنا بأن معرفة الله تعالى يجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول وتدل على فساد قول الحشوية الذين يقولون نستفيد معرفة الله والدين من الكتاب والسنة.
المسألة الثانية: تدل الآية على أنه يجوز حكاية كلام المبطل لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله وحكى شبهات منكري النبوة وشبهات منكري الحشر، إلا أنه يجب أنك متى أوردت السؤال فاقرنه بالجواب لئلا يبقى الشك كما فعل الله تعالى في هذه المواضع.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطل والجواب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش كما فعل موسى عليه السلام بفرعون هاهنا وكما أمر الله تعالى رسوله في قوله: {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} [التوبة: 6].
المسألة الرابعة: اختلف الناس في أن فرعون هل كان عارفاً بالله تعالى فقيل إنه كان عارفاً إلا أنه كان يظهر الإنكار تكبراً وتجبراً وزوراً وبهتاناً، واحتجوا عليه بستة أوجه:
أحدها: قوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض} [الإسراء: 102] فمتى نصبت التاء في علمت كان ذلك خطاباً من موسى عليه السلام مع فرعون فدل ذلك على أن فرعون كان عالماً بذلك وكذا قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14].
وثانيها: أنه كان عاقلاً وإلا لم يجز تكليفه وكل من كان عاقلاً قد علم بالضرورة أنه وجد بعد العدم وكل من كان كذلك افتقر إلى مدبر وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبر.
وثالثها: قول موسى عليه السلام هاهنا: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} وكلمة الذي تقتضي وصف المعرفة بجملة معلومة فلابد وأن تكون هذه الجملة قد كانت معلومة له.
ورابعها: قوله في سورة القصص في صفة فرعون وقومه وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بالمبدأ إلا أنهم كانوا منكرين للمعاد.
وخامسها: أن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ولما هرب موسى عليه السلام إلى مدين قال له شعيب: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} [القصص: 25] فمع هذا كيف يعتقد أنه إله العالم؟.
وسادسها: أنه لما قال: {وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23] قال موسى عليه السلام: {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء: 24] قال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوصف فهو لم ينازع موسى في الوجود بل طلب منه الماهية فدل هذا على اعترافه بأصل الوجود، ومن الناس من قال إنه كان جاهلاً بربه واتفقوا على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السموات والأرضين والشمس والقمر وأنه خالق نفسه لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله فيحصل العلم الضروري بأنه ليس موجوداً لها ولا خالقاً لها، واختلفوا في كيفية جهله بالله تعالى فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمؤثر أصلاً، ويحتمل أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة لموجبه، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة.
وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره.
المسألة الخامسة: أنه سبحانه حكى عنه في هذه السورة أنه قال: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} وقال في سورة الشعراء: {وَمَا رَبُّ العالمين} فالسؤال هاهنا بمن وهو عن الكيفية وفي سورة الشعراء بما وهو عن الماهية وهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة والأقرب أن يقال سؤال من كان مقدماً على سؤال ما لأنه كان يقول إني أنا الله والرب فقال فمن ربكما فلما أقام موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى المقام الثاني وهو طلب الماهية وهذا أيضاً مما ينبه على أنه كان عالماً بالله لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره وشرع في المقام الصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر.
المسألة السادسة: إنما قال: {فَمَن رَّبُّكُمَا} ولم يقل فمن إلهكما لأنه أثبت نفسه رباً في قوله: {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال له أنا ربك فلم تدعى رباً آخر وهذا الكلام شبيه بكلام نمروذ لأن إبراهيم عليه السلام لما قال: {رَبّيَ الذي يُحْيِ وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] قال نمروذ له: {أنا أحيي وأميت} [البقرة: 258] ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرهما إبراهيم عليه السلام هما الذي عارضه بهما نمروذ إلا في اللفظ فكذا هاهنا لما ادعى موسى ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام ومراده أني أنا الرب لأني ربيتك ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله سبحانه وتعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ.
المسألة السابعة: اعلم أن موسى عليه السلام استدل على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات وهو قوله: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى * الذي خَلَقَ فسوى * والذى قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 1 3] قال إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمور يعول على دلائل إبراهيم عليه السلام وسيأتي تقرير ذلك في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى واعلم أنه يشبه أن يكون الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان والهداية عبارة عن إبداع القوى المدركة والمحركة في تلك الأجسام وعلى هذا التقدير يكون الخلق مقدماً على الهداية ولذلك قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} [الحجر: 29] فالتسوية راجعة إلى القالب ونفخ الروح إشارة إلى إبداع القوى وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى أن قال: {ثُم أنشأناه خلقاً آخر} [المؤمنون: 14] فظهر أن الخلق مقدم على الهداية، والشروع في بيان عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية شروع في بحر لا ساحل له. ولنذكر منه أمثلة قريبة إلى الأفهام.
أحدها: أن الطبيعي يقول: الثقيل هابط والخفيف صاعد وأشد الأشياء ثقلاً الأرض ثم الماء وأشدها خفة النار ثم الهواء فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها، ثم إنه سبحانه قلب هذا الترتيب في خلقة الإنسان فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر وهما أيبس ما في البدن وهما بمنزلة الأرض ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو بمنزلة الهواء وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب التي هي بمنزلة النار فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعرف أن ذلك بتدبير القادر الحكيم الرحيم لا باقتضاء العلة والطبيعة.
وثانيها: إنك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وعجائب أحوال البق والبعوض في اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بالهام مدبر عالم بجميع المعلومات.
وثالثها: أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق بما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها ويستخرجون الحديد من الجبال واللآلى من البحار ويركبون الأدوية والدرياقات النافعة ويجمعون بين الأشياء المختلفة فيستخرجون لذات الأطعمة فثبت أنه سبحانه هو الذي خلق كل الأشياء ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها، وهذا غير مختص بالإنسان بل عام في جميع الحيوانات فأعطى الإنسان إنسانة والحمار حمارة والبعير ناقة ثم هداه لها ليدوم التناسل وهدى الأولاد لثدي الأمهات، بل هذا غير مختص بالحيوانات بل هو حاصل في أعضائها فإنه خلق اليد على تركيب خاص وأودع فيها قوة الأخذ وخلق الرجل على تركيب خاص وأودع فيها قوة المشي وكذا العين والأذن وجميع الأعضاء ثم ربط البعض بالبعض على وجوه يحصل من ارتباطها مجموع واحد، وهو الإنسان.
وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع سبحانه لأن اتصاف كل جسم من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة والهداية، إما أن يكون واجباً أو جائزاً والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن تلك التراكيب والقوى فدل على أن ذلك جائز، والجائز لابد له من مرجح وليس ذلك المرجح هو الإنسان ولا أبواه لأن فعل ذلك يستدعي قدرة عليه وعلماً بما فيه من المصالح والمفاسد، والأمران نائيان عن الإنسان لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة، وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لايعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل فلابد أن يكون المتولي لتدبيرها وترتيبها موجوداً آخر وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسماً لأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية لابد وأن يكون جائزاً وإن كان جائزاً افتقر إلى سبب آخر والدور والتسلسل محالان، فلابد من الانتهاء في سلسلة الحاجة إلى موجود مؤثر ومدبر ليس بجسم ولا جسماني ثم تأثير ذلك المؤثر إما أن يكون بالذات أو بالاختيار، والأول محال لأن الموجب لا يميز مثلاً عن مثل وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فلم اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية وبعضها بالحيوانية؟ فثبت أن المؤثر والمدبر قادر والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالماً، ثم إن هذا المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني لابد وأن يكون واجب الوجود في ذاته وفي صفاته وإلا لافتقر إلى مدبر آخر ويلزم التسلسل وهو محال، وإذا كان واجب الوجود في قادريته وعالميته والواجب لذاته لا يتخصص ببعض الممكنات دون البعض وجب أن يكون عالماً بكل ما صح أن يكون معلوماً وقادراً على كل ما صح أن يكون مقدوراً فظهر بهذه الدلالة التي تمسك بها موسى عليه السلام ونبه على تقريرها استناد العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني وهو واجب الوجود في ذاته وفي صفاته عالم بكل المعلومات قادر على كل المقدورات وذلك هو الله سبحانه وتعالى.
المسألة الثامنة: أن فرعون خاطب الاثنين بقوله: {فَمَن رَّبُّكُمَا} ثم وجه النداء إلى أحدهما وهو موسى عليه السلام لأنه الأصل في النبوة وهرون وزيره وتابعه، وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرتة التي في لسان موسى عليه السلام فأراد استنطاقه دون أخيه لما عرف من فصاحته والرتة التي في لسان موسى عليه السلام ويدل عليه قوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52].
المسألة التاسعة: في قوله: {الذى أعطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} وجهان:
أحدهما: التقديم والتأخير أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به.
وثانيهما: أن يكون المراد من الخلق الشكل والصورة المطابقة للمنفعة فكأنه سبحانه قال: أعطى كل شيء الشكل الذي يطابق منفعته ومصلحته، وقرئ خلقه صفة للمضاف أو المضاف إليه، والمعنى أن كل شيء خلقه الله لم يخله من إعطائه وإنعامه، وأما قوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} فاعلم أن في ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوهاً:
أحدها: أن موسى عليه السلام لما قرر على فرعون أمر المبدأ والمعاد قال فرعون: إن كان إثبات المبدأ في هذا الحد من الظهور: {فَمَا بَالُ القرون الأولى} ما أثبتوه وتركوه؟ فكان موسى عليه السلام لما استدل بالدلالة القاطعة على إثبات الصانع قدح فرعون في تلك الدلالة بقوله إن كان الأمر في قوة هذه الدلالة على ما ذكرت وجب على أهل القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها فعارض الحجة بالتقليد.
وثانيها: أن موسى عليه السلام هدد بالعذاب أولاً في قوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} [طه: 48] فقال فرعون: {فَمَا بَالُ القرون الأولى} فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا؟.
وثالثها: وهو الأظهر أن فرعون لما قال: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} فذكر موسى عليه السلام دليلاً ظاهراً وبرهاناً باهراً على هذا المطلوب فقال: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} فخاف فرعون أن يزيد في تقرير تلك الحجة فيظهر للناس صدقه وفساد طريق فرعون فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام وأن يشغله بالحكايات فقال: {فَمَا بَالُ القرون الأولى} فلم يلتفت موسى عليه السلام إلى ذلك الحديث بل قال: {عِلْمُهَا عِندَ رَبّي فِي كتاب} ولا يتعلق غرضي بأحوالهم فلا أشتغل بها، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول وإيراد الدلائل الباهرة على الوحدانية فقال: {الذى خَلَقَ لَكُم الأرض مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} وهذا الوجه هو المعتمد في صحة هذا النظم، ثم هاهنا مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في قوله: {عِلْمُهَا عِندَ رَبّي فِي كتاب} فإن العلم الذي يكون عند الرب كيف يكون في الكتاب؟ وتحقيقه هو أن علم الله تعالى صفته وصفة الشيء قائمة به، فأما أن تكون صفة الشيء حاصلة في كتاب فذاك غير معقول فذكروا فيه وجهين:
الأول: معناه أنه سبحانه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده لكون ما كتبه فيه يظهر للملائكة فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة، ولقائل أن يقول قوله: {فِى كتاب} يوهم احتياجه سبحانه وتعالى في ذلك العلم إلى ذلك الكتاب وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أنه يوهمه في أول الأمر لا سيما للكافر فكيف يحسن ذكره مع معاند مثل فرعون في وقت الدعوة؟ الوجه الثاني: أن تفسير ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها معلومة لله تعالى بحيث لا يزول شيء منها عن علمه، وهذا التفسير مؤكد بقوله بعد ذلك: {لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى}.
المسألة الثانية: اختلفوا في قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى} فقال بعضهم معنى اللفظين واحد أي لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عليه وهذا قول مجاهد والأكثرون على الفرق بينهما، ثم ذكروا وجوهاً:
أحدها: وهو الأحسن ما قاله القفال لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علم من ذلك لم ينسه فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات واللفظ الثاني وهو قوله: ولا ينسى دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو إشارة إلى نفي التغير.
وثانيها: قال مقاتل: لا يخطئ ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه.
وثالثها: قال الحسن لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه.
ورابعها: قال أبو عمرو أصل الضلال الغيبوبة والمعنى لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء.
وخامسها: قال ابن جرير لا يخطئ في التدبير فيعتقد في غير الصواب كونه صواباً وإذا عرفه لا ينساه وهذه الوجوه متقاربة والتحقيق هو الأول.
المسألة الثالثة: أنه لما سأله عن الإله وقال: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} وكان ذلك مما سبيله الإستدلال أجاب بما هو الصواب بأوجز عبارة وأحسن معنى، ولما سأله عن شأن القرون الأولى وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته في ذلك خبر وكله إلى عالم الغيوب، واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة. أولها: قوله تعالى: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} وفيه أبحاث:
البحث الأول: قرأ أهل الكوفة هاهنا وفي الزخرف {مهداً} والباقون قرؤوا مهاداً فيهما قال أبو عبيدة: الذي اختاره مهاداً وهو اسم والمهد اسم الفعل، وقال غيره: المهد الاسم والمهاد الجمع كالفرش والفراش أجاب أبو عبيدة بأن الفراش اسم والفرش فعل، وقال المفضل هما مصدران لمهد إذا وطأ له فراشاً يقال مهد مهداً ومهاداً وفرش فرشاً وفراشاً.
البحث الثاني: قال صاحب الكشاف: {الذي جَعَلَ} مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو لأنه صفة لربي أو منصوب على المدح وهذا من مظانه ومجازه، واعلم أنه يجب الجزم بكونه خبراً لمبتدأ محذوف إذ لو حملناه على الوجهين الباقيين لزم كونه من كلام موسى عليه السلام ولو كان كذلك لفسد النظم بسبب قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نبات شتى} على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
البحث الثالث: المراد من كون الأرض مهداً أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَاء} [البقرة: 22].
وثانيها: قوله تعالى: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} قال صاحب الكشاف سلك من قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} [الشعراء: 200] أي جعل لكم فيها سبلاً ووسطها بين الجبال والأودية والبراري.
وثالثها: قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} والكلام فيه قد مر في سورة البقرة أما قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نبات شتى} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {فَأَخْرَجْنَا} فيه وجوه:
أحدها: أن يكون هذا من تمام كلام موسى عليه السلام كأنه يقول ربي الذي جعل لكم كذا وكذا فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة أزواجاً من نبات شتى.
وثانيها: أن عند قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} تم كلام موسى عليه السلام ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه متصلاً بالكلام الأول بقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} ثم يدل على هذا الاحتمال قوله: {كُلُواْ وارعوا أنعامكم}.
وثالثها: قال صاحب الكشاف انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للإيذان بأنه سبحانه وتعالى مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره ومثله قوله تعالى: {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيء} [الأنعام: 99] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27] {أَمَّنْ خَلَقَ السموات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60] واعلم أن قوله: {فَأَخْرَجْنَا} إما أن يكون من كلام موسى عليه السلام أو من كلام الله تعالى والأول باطل لأن قوله بعد ذلك: {كُلُواْ وارعوا أنعامكم إِنَّ فِي ذلك لأيات لأُوْلِى النهى مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} لا يليق بموسى عليه السلام وأيضاً فقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نبات شتى} لا يليق بموسى لأن أكثر ما في قدرة موسى عليه السلام صرف المياه إلى سقي الأراضي وأما إخراج النبات على اختلاف ألوانها وطبائعها فليس من موسى عليه السلام فثبت أن هذا كلام الله ولا يجوز أن يقال كلام الله ابتداؤه من قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نبات شتى} لأن الفاء يتعلق بما قبله فلا يجوز جعل هذا كلام الله تعالى وجعل ما قبله كلام موسى عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال: إن كلام موسى عليه السلام تم عند قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى} ثم ابتدئ كلام الله تعالى من قوله: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} ويكون التقدير هو الذي {جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} فيكون الذي خبر مبتدأ محذوف ويكون الانتقال من الغيبة إلى الخطاب التفاتاً.
المسألة الثانية: ظاهر الآية يدل على أنه سبحانه إنه يخرج النبات من الأرض بواسطة إنزال الماء فيكون للماء فيه أثر وهذا بتقدير ثبوته لا يقدح في شيء من أصول الإسلام لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أعطاها هذه الخواص والطبائع لكن المتقدمين من المتكلمين ينكرونه ويقولون لا تأثير له فيه ألبتة.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {أزواجا} أي أصنافاً سميت بذلك لأنها مزدوجة مقرونة بعضها مع بعض {شتى} صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى ويجوز أن يكون صفة للنبات والنبات مصدر سمي به النابت كما يسمى بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم والطبع بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم أما قوله: {كُلُواْ وارعوا أنعامكم} فهو حال من الضمير في أخرجنا والمعنى أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها. وقد تضمن قوله كلوا سائر وجوه المنافع فهو كقوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} [البقرة: 188] وقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] وقوله: {كُلُواْ} أمر إباحة {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي فيما ذكرت من هذه النعم {لآيَاتٍ} أي لدلالات لذوي النهى أي العقول والنهية العقل.
قال أبو علي الفارسي: النهى يجوز أن يكون مصدراً كالهدى ويجوز أن يكون جمعاً أما قوله: {مِنْهَا خلقناكم} فاعلم أنه سبحانه لما ذكر منافع الأرض والسماء بين أنها غير مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لكونها وسائل إلى منافع الآخرة فقال: {مِنْهَا خلقناكم} وفيه سؤالان:
السؤال الأول: ما معنى قوله: {مِنْهَا خلقناكم} مع أنه سبحانه وتعالى خلقنا من نطفة على ما بين ذلك في سائر الآيات.
والجواب من وجهين:
الأول: أنه لما خلق أصلنا وهو آدم عليه السلام من التراب على ما قال: {كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] لا جرم أطلق ذلك علينا.
الثاني: أن تولد الإنسان إنما هو من النطفة ودم الطمث وهما يتولدان من الأغذية، والغذاء إما حيواني أو نباتي والحيواني ينتهي إلى النبات والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب فصح أنه تعالى خلقنا منها وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة.
والثالث: ذكرنا في قوله تعالى: {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام} [آل عمران: 6] خبر ابن مسعود أن الله يأمر ملك الأرحام أن يكتب الأجل والرزق والأرض التي يدفن فيها وأنه يأخذ من تراب تلك البقعة ويذره على النطفة ثم يدخلها في الرحم.
السؤال الثاني: ظاهر الآية يدل على أن الشيء قد يكون مخلوقاً من الشيء وظاهر قول المتكلمين يأباه.
والجواب: إن كان المراد من خلق الشيء من الشيء إزالة صفة الشيء الأول عن الذات وأحداث صفة الشيء الثاني فيه فذلك جائز لأنه لا منافاة فيه، أما قوله تعالى: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} فلا شبهة في أن المراد الإعادة إلى القبور حتى تكون الأرض مكاناً وظرفاً لكل من مات إلا من رفعه الله إلى السماء، ومن هذا حاله يحتمل أن يعاد إليها أيضاً بعد ذلك، أما قوله تعالى: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} ففيه وجوه:
أحدها: وهو الأقرب: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} يوم الحشر والبعث.
وثانيها: ومنها نخرجكم تراباً وطيناً ثم نحييكم بعد الإخراج وهذا مذكور في بعض الأخبار.
وثالثها: المراد عذاب القبر عن البراء قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فذكر عذاب القبر وما يخاطب به المؤمن والكافر وأنه ترد روحه في جسده ويرد إلى الأرض وأنه تعالى يقول عند إعادتهم إلى الأرض إني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى واعلم أن الله تعالى عدد في هذه الآيات منافع الأرض وهي أنه تعالى جعلها لهم فراشاً ومهاداً يتقلبون عليها وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف أرادوا وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلف دوابهم وهي أصلهم الذي منه يتفرعون ثم هي كفاتهم إذا ماتوا، ومن ثم قال عليه السلام: «بروا بالأرض فإنها بكم برة».


{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)}
اعلم أنه تعالى بين أنه أرى فرعون الآيات كلها ثم إنه لم يقبلها واختلفوا في المراد بالآيات، فقال بعضهم أراد كل الأدلة ما يتصل بالتوحيد وما يتصل بالنبوة، أما التوحيد فما ذكر في هذه السورة من قوله: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] وقوله: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} [طه: 53] الآية، وما ذكر في سورة الشعراء: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين * قَالَ رَبّ السموات والأرض} [الشعراء: 23، 24] الآيات، وأما النبوة فهي الآيات التسع التي خص الله بها موسى عليه السلام وهي العصا واليد وفلق البحر والحجر والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل وعلى هذا التقرير معنى أريناه عرفناه صحتها وأوضحنا له وجه الدلالة فيها، ومنهم من حمل ذلك على ما يتصل بالنبوة وهي هذه المعجزات، وإنما أضاف الآيات إلى نفسه سبحانه وتعالى مع أن المظهر لها موسى عليه السلام لأنه أجراها على يديه كما أضاف نفخ الروح إلى نفسه فقال: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] مع أن النفخ كان من جبريل عليه السلام، فإن قيل قوله: كلها يفيد العموم والله تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملة الآيات ما أظهرها على الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل موسى عليه السلام والذين كانوا بعده قلنا: لفظ الكل وإن كان للعموم لكن قد يستعمل في الخصوص عند القرينة كما يقال دخلت السوق فاشتريت كل شيء أو يقال إن موسى عليه السلام أراه آياته وعدد عليه آيات غيره من الأنبياء عليهم السلام فكذب فرعون بالكل أو يقال تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل فحكى الله تعالى ذلك على الوجه الذي يلزم ثم إنه سبحانه وتعالى حكى عنه أنه كذب وأبى قال القاضي: الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك ولأن الله تعالى ذمه بأنه كذب وبأنه أبى ولو لم يقدر على ما هو فيه لم يصح، واعلم أن هذا السؤال مر في سورة البقرة في قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر} [البقرة: 34] والجواب مذكور هناك، ثم حكى الله تعالى شبهة فرعون وهي قوله: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى} وتركيب هذه الشبهة عجيب وذلك لأنه ألقى في مسامعهم ما يصيرون به مبغضين له جداً وهو قوله: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} وذلك لأن هذا مما يشق على الإنسان في النهاية ولذلك جعله الله تعالى مساوياً للقتل في قوله: {أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دياركم} [النساء: 66] ثم لما صاروا في نهاية البغض له أورد الشبهة الطاعنة في نبوته عليه السلام وهي أن ما جئتنا به سحر لا معجز، ولما علم أن المعجز إنما يتميز عن السحر لكون المعجز مما يتعذر معارضته والسحر مما يمكن معارضته قال: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ} أما قوله تعالى: {فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ} فاعلم أن الموعد يجوز أن يكون مصدراً ويجوز أن يكون اسماً لمكان الوعد كقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] وأن يكون اسماً لزمان الوعد كقوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} [هود: 81] والذي في هذه الآية بمعنى المصدر أي اجعل بيننا وبينك وعداً لا نخلفه لأن الوعد هو الذي يصح وصفه بالخلف.
أما الزمان والمكان فلا يصح وصفهما بذلك، ومما يؤكد ذلك أن الحسن قرأ يوم الزينة بالنصب وذلك لا يطابق المكان والزمان وإنما نصب مكاناً لأنه هو المفعول الثاني للجعل والتقدير اجعل مكان موعد لا نخلفه مكاناً سوى.
أما قوله: {سُوًى} فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة وابن عامر {سُوًى} بضم السين والباقون بكسرها وهما لغتان مثل طوى وطوى، وقرئ أيضاً منوناً وغير منون، وذكروا في معناه وجوهاً: أحدها: قال أبو علي مكاناً تستوي مسافته على الفريقين وهو المراد من قول مجاهد قال قتادة منصفاً بيننا.
وثانيها: قال ابن زيد: {سُوًى} أي مستوياً لا يحجب العين ما فيه من الارتفاع والانخفاض فسوى على التقدير الأول صفة المسافة وعلى هذا التقدير صفة المكان والمقصود أنهم طلبوا موضعاً مستوياً لا يكون فيه ارتفاع ولا انخفاض حتى يشاهد كل الحاضرين كل ما يجري.
وثالثها: مكاناً يستوي حالنا في الرضاء به.
ورابعها: قال الكلبي: مكاناً سوى هذا المكان الذي نحن فيه الآن.


{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)}
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: يحتمل أن قوله تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ} أن يكون من قول فرعون فبين الوقت ويحتمل أن يكون من قول موسى عليه السلام، قال القاضي والأول أظهر لأنه المطالب بالاجتماع دون موسى عليه السلام، وعندي الأظهر أنه من كلام موسى عليه السلام لوجوه:
أحدها: أنه جواب لقول فرعون فاجعل بيننا وبينك موعداً.
وثانيها: وهو أن تعيين يوم الزينة يقتضي اطلاع الكل على ما سيقع فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أن اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس.
وثالثها: أن قوله: موعدكم خطاب للجمع فلو جعلناه من فرعون إلى موسى وهرون لزم إما حمله على التعظيم وذلك لا يليق بحال فرعون معهما أو على أن أقل الجمع إثنان وهو غير جائز أما لو جعلناه من موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه استقام الكلام.
المسألة الثانية: يوم الزينة قرأ بعضهم بضم الميم وقرأ الحسن بالنصب قال الزجاج: إذا رفع فعلى خبر المبتدأ والمعنى وقت موعدكم يوم الزينة ومن نصب فعلى الظرف معناه موعدكم يقع يوم الزينة وقوله: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} معناه موعدكم حشر الناس ضحى فموضع أن يكون رفعاً ويجوز فيه الخفض عطفاً على الزينة كأنه قال موعدكم يوم الزينة ويوم يحشر الناس ضحى فإن قيل ألستم قلتم في تفسير قوله: {أَجَعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} [طه: 58] إن التقدير اجعل مكان موعد لا نخلفه مكاناً سوى فهذا كيف يطابقه الجواب بذكر الزمان؟ قلنا هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً لأنهم لابد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان معين مشهود باجتماع الناس في ذلك اليوم فبذكر الزمان علم المكان.
المسألة الثالثة: ذكر المفسرون في يوم الزينة وجوهاً:
أحدها: أنه يوم عيد لهم يتزينون فيه.
وثانيها: قال مقاتل يوم النيروز.
وثالثها: قال سعيد بن جبير يوم سوق لهم.
ورابعها: قال ابن عباس يوم عاشوراء، وإنما قال يحشر فإنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حاشر لهم، وقرئ وأن يحشر الناس بالياء والتاء يريد وأن تحشر الناس يا فرعون وأن يحشر اليوم ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة، إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم بقوله: {مَوْعِدُكُمْ} وجعل ضمير يحشر لفرعون وإنما أوعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله تعالى وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد في المجمع العام ليكثر المحدث بذلك الأمر العجيب في كل بدو وحضر ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر، قال القاضي: إنه عين اليوم بقوله: {يَوْمُ الزينة} ثم عين من اليوم وقتاً معيناً بقوله: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} وأما قوله: {فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى} فاعلم أن التولي قد يكون إعراضاً وقد يكون انصرافاً والظاهر هاهنا أنه بمعنى الانصراف وهو مفارقته موسى عليه السلام على الموعد الذي تواعدوا للاجتماع فيه، قال مقاتل: فتولى أي أعرض وثبت على إعراضه عن الحق ودخل تحت قوله: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} السحرة وسائر من يجتمع لذلك ويدخل فيه الآلات وسائر ما أوردته السحرة {ثُمَّ أتى} دخل تحت أتى الموضع بالسحرة وبالقوم وبالآلات قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل واحد منهم حبل وعصا وقيل كانوا أربعمائة وقيل أكثر من ذلك ثم ضربت لفرعون قبة فجلس فيها ينظر إليهم وكان طول القبة سبعين ذراعاً ثم بين تعالى أن موسى عليه السلام قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير مما قالوه وأقدموا عليه فقال: {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً} بأن تزعموا بأن الذي جئت به ليس بحق وأنه سحر فيمكنكم معارضتي، قال الزجاج: يجوز في انتصاب ويلكم أن يكون المعنى ألزمهم الله ويلا إن افتروا على الله كذبا ويجوز على النداء كقوله: {ياويلتا ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} [هود: 72]، {ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] وقوله: {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} أي يعذبكم عذاباً مهلكاً مستأصلاً وقرأ حمزة وعاصم والكسائي برفع الياء من الإسحات والباقون بفتحها من السحت والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم والسحت لغة أهل الحجاز فكأنه تعالى قال: من افترى على الله كذباً حصل له أمران: أحدهما: عذاب الاستئصال في الدنيا أو العذاب الشديد في الآخرة وهو المراد من قوله: {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ}.
والثاني: الخيبة والحرمان عن المقصود وهو المراد بقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} ثم بين سبحانه وتعالى أنه لم قال موسى عليه السلام ذلك أعرضوا عن قوله: {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} وفي تنازعوا قولان:
أحدهما: تفاوضوا وتشاوروا ليستقروا على شيء واحد.
والثاني: قال مقاتل: اختلفوا فيما بينهم ثم قال بعضهم: دخل في التنازع فرعون وقومه ومنهم من يقول: بل هم السحرة وحدهم والكلام محتمل وليس في الظاهر ما يدل على الترجيح وذكروا في قوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى} وجوهاً:
أحدها: أنهم أسروها من فرعون وعلى هذا التقدير فيه وجوه:
الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما إن نجواهم قالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه.
والثاني: قال قتادة إن كان ساحراً فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر.
الثالث: قال وهب لما قال: {وَيْلَكُمْ} الآية قالوا ما هذا بقول ساحر.
القول الثاني: أنهم أسروا النجوى من موسى وفرعون ونجواهم هو قولهم: {إِنْ هاذان لساحران يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ} [طه: 63] وهو قول السدي.
الوجه الثالث: أنهم أسروا النجوى من موسى وهرون ومن فرعون وقومه أيضاً وكان نجواهم أنهم كيف يجب تدبير أمر الحبال والعصي وعلى أي وجه يجب إظهارها فيكون أوقع في القلوب وأظهر للعيوب وهو قول الضحاك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8